[100%] 
من طرف دموع في ليلة صافيه
صوت أبي وأمي يرتفع قليل، كنت مارا بجانب غرفتهما وسمعت صوت جدال عالٍ ،سمعت أبي يحادث أمي عن اللباس الذي ترتديه ومخالفته لشرع الله ،وبعد أيام تأتي جماعة كبيرة للبيت، لقد توفي أبي وها هم أصحابه ومعارفه يأتون ليقدموا تعازيهم ،لم أكن أتجاوز في عمري الثلاث سنوات لكن بكاء جدتي جعلني أظن أني خسرت شيء قيما وغاليا على قلبي الصغير .
بعد مرور شهرين أو ثلاثة لا أتذكر تماما لكن أمي قررت أن تتزوج ،فكيف تهدر شبابها على ذكريات شخص قد وضع تحت التراب ودفن .ها هو الجرس يقرع ،لقد كأن الأب الوهمي أو كما تدعي أمي أنه الأب الجديد رحبت أمي به وبوالديه أجمل ترحيب، لقد كأن طويل القامة ،جميل المظهر، لكن ماذا يخبئ وراء هذا الجمال .
لقد تزوجا، وأصبح الأب الوهمي الآن، وبعد مرور شهر بدأت تظهر حقيقته ،أنه لا يريد الاحتفاظ بنا ،نحن نشكل عبأً عليه وعلى زوجته، لن أناديها أمي فقد وافقته الرأي بالتخلص منا .
وفي الصباح أخذتنا أمي إلى جدتي وقالت لها بلهجة فظة :خذي أحفادك أيتها العجوز وغربوا عن وجهي لكن جدتي لما تعرها أي اهتمام، بل رحبت بنا ،وأخذتنا في احضنها، وأخذت تبكي بدون صوت، تتأسف على مصيرنا ومستقبلنا الذي سوف يكون،كانت بعض هذه الأفكار تراود جدتي ،كيف يعيش هؤلاء الصغار بدون أب وأم أنا مها أطال الله في عمري سوف أموت وهم لم يصبحوا رجال بعد يعتمد عليهم.
عملت جدتي كادحة لتفوير قوتنا وما يلزمنا من طعام ولباس ومصاريف تعليم، كنا أنا وأخوتي من الطلبة المتفوقون ،إلا الكبير فينا فلم تكن له رغبه في التعليم، لكن جدتي تدخله المدرسة وتعلمه.
مضت الأيام ،وتخلى صاحب العمل عن الجدة، فأصبحت قلقة على مصيرنا ، ورجعت للبيت لتطرح الوضع علينا ,تبرعت أن اترك المدرسة، واذهب للعمل في المنجرة في الشارع المقابل, أجابت جدتي: لكنك متفوق في دروسك ،ولا يحق لي حرمانك من التعليم ،أجاب أخي الكبير: سوف اتركها أنا، فأنا أكثر قوة منكم، واقل رغبة في التعليم ،عارضته جدتي، لكن أخي الكبير معه حق في كلامه، فكانت هذه رغبته .
يخرج كل صباح ويعود في المساء، نرحب به ونقدر له معروفه وصنيعه ،ونأتي له بالماء الساخن ليغتسل، ونحضر الطعام ،ونجلس بجانبه على ضوء الشمعة الخافت ،ونستمع إليه يحذرنا من ترك التعليم، فقد تعرف إلى صعوبات الحياة والعمل ،والفرق بين مرتبة المتعلم في العمل، ومرتبة غير المتعلم ،ومن الإرهاق نتركه ينام.
اذهب إلى فراشي كل ليله ,وأندف الدموع حزناً على وضعنا المأساوي، أتمنى لو كانت أمي وأبي معنا الآن، لكان وضعنا أفضل، ولو بقليل، واذهب لأغوص في أحلامي الوردية .
كبرنا على ما يحضره أخي من مال ،وبعد وفاة جدتي أصبحت أنا المسئول في البيت أثناء عدم وجود أخي الكبير، كنت على مشارف إنهاء دراستي.
أتممتها من ما ورثته عن جدتي من حلي لم يكن كثيرا لكنه يفي بالغرض لإتمام تعليمي ،أصبحت اعمل في إحدى الشركات، وتقدمت في العمل، وتحسن وضعنا المادي، ووفرت ما يلزم إخوتي البقية لإتمام تعليمهم، أصبحنا كلنا نعمل .
علمت أن أمي قد تركت زوجها بعد أن أخرجها من المنزل، وأعطته كل شيء، رأيتها في الشارع تمشي حزينة، بملابس رثة وممزقه، إنها أمي، لقد أصبح شعرها الحريري خشن ومجعد وغلب عليه اللون الأبيضن أما وجهها الذي كان مليء بالشباب، فقد غدا مصفراً مجعداً وشاحب، وجسمها الجميل، الآن هو هزيل ضعيف، أخذتها إلى البيت، وألبستها ملابس نظيفة، كنت شديد السعادة والحزن في آن واحد، سعيد لعودة أمي، وحزين لما حصل لها، حضنتني وهي تتأسف لما فعلته بنا، وبكت، تركتها تبكي لتريح عن نفسها، وعندما عاد إخوتي كلهم إلى البيت, ارتموا في أحضانها ,سعداء بعودتها, أملين بعدم فراقها ,عشنا جميعا في بيتنا بعد استرداده من الرجل المخادع .
